--------------------------------------------------------------------------------
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد..
فإن
مما يقرب بين القلوب ويذهب الأحقاد والضغائن:
العتاب بين الأحبة بالحسنى وباللفظ اللطيف،
ولذلك فقد مدح قوم العتاب
فقالوا:
العتاب حدائق المتحابين، ودليل على بقاء المودة
.
وقال بعض أهل الأدب:
العتاب خير من الحقد، ولا يكون العتاب إلا على زلة.
فالذي يحمل في قلبه على عشرائه إنما يجمع الأحقاد ويكثرها، فإذا عاتب صاحبه تبين له ما كان ملتبسا بشبهة، واتضح له ما كان يحتمل أكثر من معنى، ومن أجل ذلك قال القائل:
وفي العتاب حياة بين أقـوام ***** وهو المحك لذي لبس وإيهام
ويحسن بالمرء إذا أراد أن يعاتب صاحبه
أن يجعل له طريقاً إلى الرجوع والمعاودة،
وذلك
عن طريق التماس العذر،
فلا يغلق عليه الأبواب بعتاب غليظ جاف
ثم
يريد منه أن يعتذر منه.
ألم تر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين جاءه المتخلفون عن غزوة تبوك يعتذرون عن تخلفهم أخذ بظاهرهم
وقبل اعتذارهم
ووكل سريرتهم إلى الله تعالى.
ولما جاء الرجل وقد زنى وأقر عنده بالزنى قال صلى الله عليه وسلم:
"لعلك غمزت؟ لعلك قبلت؟"،
قال أهل العلم:
يؤخذ منه تنبيه الحاكم الجاني إلى العذر، هذا إن لم يتعلق بجرمه حق للآخرين.
فإذا كان هذا في حكم شرعي وكبيرة من الكبائر فكيف بالأمور المستحبة أو المباحات؟
كتب رجل إلى صديقه كتابا أرسله إليه وفيه حط عليه، فرد عليه الصديق:
ينبهه إلى تأمُّلِ ما كتبه من عتاب غليظ بعد هدوء النفس، حتى يرى قوة عباراته فقال:
اقرأ كتابـك واعتبره قريبـــا *** فكفى بنفسك لي عليك حسيبـا
أكذا يكون خطاب إخوان الصفا ** * إن أرسلوا جعلوا الخطاب خطوبا؟
ما كان عذري إن أجبت بمثلـه *** أوكنت بالعتـب العنيف مجيبـا
لكنني خفت انتقاص مودتــي *** فيعد إحساني إليك ذنــوبـا
كما أن من الواجب على المرء أنْ لا يعاتبَ في كل شيء،
حتى يكون العتاب له سمة وعلامة يُعرَف بها،
فيحط قدره عند إخوانه
فيعرف
بأنه يعاتب على كل شيء ويغضب لأي شيء،
فالمرء كلما استطاع أن يجعل عتابه عزيزاً فليفعل،
حتى
إذا عاتب عُرِف أنه لا يعاتب إلا على ما يُستَحق أن يعاتَب عليه.
وينبغي للعاقل
إن عاتب أخاه أو صاحبه أو عشيره
أن يتلطف معه،
ولا يسبه فيما عرفه عنه،
فإن من أخلاق اللؤم عند بعض الناس
إن غضب على صاحبه بشيء
أظهر كل ما يعرفه عنه،
فقطع وصله، وأثار ضغينته،
ولم يبق للصلح موضعاً وسبيلاً،
وقد أحسن من قال:
وأعرض عن أشياء لو شئت قلتها
***
ولو قلتها لم أبق للصلح موضـعا
فكل منا يرى في الناس ما لا يرى في نفسه،
فلو كان في حال عتابه ومخاصمته لصديقه
أظهر كل ما في مكنونه،
هل يأمل أن ترجع الصحبة إلى موضعها في يوم من الأيام؟
فإن هذا الخلق يعمل به من أراد قطع صلته بصاحبه،
وليس من أراد تقريبها بعد انفلاتها..
وليحذر العاقل من العتاب المفضي إلى القطيعة،
فالعاقل يميز
فإن رأى أن هذا الشخص مما يجدي معه العتاب
عاتبه،
وإن رأى أن هذا مما يفسد عليه صحبته
أحجم عنه.
قال إياس بن معاوية:
خرجت في سفر ومعي رجل من الأعراب فلما كان في بعض المناهل،
لقيه ابن عم له،
فتعانقا وتعاتبا،
وإلى جانبهما شيخ من الحي فقال لهما:
أنعما عيشا، إن المعاتبة تبعث التجني،
والتجني يبعث المخاصمة،
والمخاصمة تبعث العداوة،
ولا خير في شيء ثمرته العداوة.